• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    نعمة الماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تدبر خواتيم سورة البقرة
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    تحريم الإهلال لغير الله تبارك وتعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    مشاهد عجيبة حصلت لي!
    أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (2)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الدرس السابع عشر: آثار الذنوب على الفرد والمجتمع
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    خطبة: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    سورة الكافرون.. مشاهد.. إيجاز وإعجاز (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    من آداب المجالس (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    خطر الميثاق
    السيد مراد سلامة
  •  
    أعظم فتنة: الدجال (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

تفسير قوله الله تعالى: { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله... } [البقرة: 284 - 286]

تفسير قوله الله تعالى: { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/9/2023 ميلادي - 23/2/1445 هجري

الزيارات: 3222

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير قوله الله تعالى:

﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.. ﴾

[البقرة: 284 - 286]

 

قوله الله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 284 - 286].

 

قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

 

قوله: ﴿ لله ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ لإفادة الحصر، أي: لله وحده ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ خلقًا وملكًا وتدبيرًا، بلا شريك، ولا منازع.

 

كما قال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22].

 

و﴿ مَا ﴾ في قوله: ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: موصولة تفيد العموم، وكررت مع قوله: ﴿ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لتأكيد العموم.

 

والسماوات: جمع سماء، وهي الأجرام العلوية، وهي كالقبة على الأرض، وكل ما كان منها أعلى فهو أوسع، وهي سبع؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [المؤمنون: 86]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 12].

 

والمراد بالأرض جنس الأرضين، وأفردت في القرآن كله- والله أعلم- لثقل الجمع، وهي سبع أرضين، كما قال تعالى في آية الطلاق: ﴿ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾؛ أي: مثل السماوات في العدد، وفي الحديث: «من ظلم قيد شبر طُوِّقه من سبع أرضين يوم القيامة»[1].

 

وفيه: «من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين»[2].

 

فهو - عز وجل - خالق السماوات والأرض، وجميع ما فيهما من العوالم، وما بينهما، وجميع ما في الكون، ومالكه ومدبره.

 

فالخلق خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، كما قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، وقال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ﴾ [المائدة: 120]، وقال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 49]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

 

فله - عز وجل - الخلق والملك والتدبير، وكمال الربوبية، مما يستلزم أن يكون له كمال الألوهية.

 

﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ الواو: عاطفة، و«إن» شرطية، و﴿ تُبْدُوا ﴾: فعل الشرط، و﴿ ما ﴾ موصولة، أي: وإن تظهروا الذي في صدوركم وقلوبكم من المعتقدات، والمضمرات والسرائر.

 

﴿ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ معطوف على ﴿ تُبْدُوا ﴾ والضمير يعود إلى ﴿ ما ﴾ الموصولة، أي: أو تسروه وتضمروه.

 

﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾: جواب الشرط «إن»، والضمير في «به» يعود إلى ﴿ ما ﴾ في قوله: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾.

 

ومعنى ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾: يُطلعكم عليه ويخبركم به ويظهره لكم ؛ لأنه- عز وجل- لا تخفى عليه خافية، والسر والعلانية عنده سواء.

 

كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، وقال تعالى: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 29].

 

وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [التغابن: 4]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [هود: 5].

 

قال ابن تيمية في كلامه على الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾: «فهذا متضمن لكمال علمه- سبحانه وتعالى- بسرائر عباده وظواهرهم، وأنه لا يخرج شيء من ذلك عن علمه، كما لم يخرج شيء ممن في السماوات والأرض عن ملكه، فعلمه عام، وملكه عام، ثم أخبر تعالى عن محاسبته لهم بذلك، وهي تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه، فتضمن ذلك علمه بهم، وتعريفهم إياه»[3].

 

ولا يلزم من المحاسبة المعاقبة، ولهذا قال تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، قرأ ابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب برفع الراء والباء منهما، على الاستئناف، وقرأ الباقون بجزمهما عطفًا على جواب الشرط ﴿ يُحَاسِبْكُمْأي: (فَيَغْفِرُ ﴾ برحمته ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ من عباده المؤمنين.

 

والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق والتجاوز عن العقوبة- كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في تقرير المؤمن بذنوبه وقول الله- عز وجل- له: «أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»[4].

 

ومنه سُمي «المغفر» وهو البيضة التي توضع على الرأس حال القتال تستره، وتقيه السهام ونحوها.

 

﴿ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ من الكفرة والعصاة بعدله، كما قال تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286].

 

وفي قوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، دليل على أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة فإنه - عز وجل - قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب، وعليه يدل حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه - عز وجل - حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: فيُعطى صحيفة حسناته - أو كتابه - بيمينه، وأما الكفار فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين»[5].

 

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 129].

 

وقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 40].

 

قوله: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، قدِّم المتعلقين وهما قوله: ﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ على الخبر ﴿ قدير ﴾ لتأكيد شمول قدرته، وإحاطتها بكل شيء، و«قدير» على وزن «فعيل» صفة مشبهة، يدل على كمال قدرته عز وجل.

 

فهو - عز وجل - ذو القدرة التامة، وذو القدرة على كل شيء، لا يُعجزه شيء، كما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]، ولا أحد يقدر على كل شيء إلا الله عز وجل.

 

وناسب ختم الآية بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ لأن محاسبته - عز وجل - للعباد على ما يبدون وما يخفون، ومغفرته لمن يشاء وتعذيبه لمن يشاء منهم، إنما يحصل ذلك يوم البعث والمعاد الذي هو من أعظم الدلائل على كمال قدرته عز وجل.

 

قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.

 

ســبب النــزول:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم بركوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير»، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.

 

فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قال: نعم»[6].

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: قد فعلت، ﴿ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ قال: قد فعلت ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ قال: قد فعلت»[7].

 

وعن سالم بن عبدالله بن عمر: «أن أباه قرأ: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عباس، فقال: يرحم الله أبا عبدالرحمن - لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنزلت، فنسختها الآية التي بعدها: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾»[8].

 

فضل هاتين الآيتين:

عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»[9].

 

قيل: كفتاه عن قيام الليل، وقيل: كفتاه بركة، وتعوذًا من الشياطين والمضار، وقيل غير ذلك.

 

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبي قبل»[10].

 

وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإني أعطيتهما من تحت العرش»[11].

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته»[12].

 

قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.

 

قوله: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ في هذه الآية الكريمة ثناء من الله - عز وجل - على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وامتداح لهم بأنهم صدقوا وأقرُّوا بما أنزل إليهم من ربهم، وانقادوا له بجوارحهم، ظاهرًا وباطنًا.

 

﴿ الرَّسُولُ ﴾ (أل) للعهد الذهني؛ أي: الرسول المعهود المعروف محمد صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله - عز وجل - قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [البقرة: 119]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45].

 

﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾؛ أي: بالذي أنزل إليه من ربه من الوحي، وهو القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ [النساء: 113]؛ أي: القرآن والسنة.

 

والمراد بالربوبية هنا أخص الربوبية؛ لأن الربوبية أقسام: الربوبية العامة لجميع الخلق، والربوبية الخاصة للمؤمنين، وربوبية خاصة الخاصة للرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وربوبية خاصة خاصة الخاصة له - صلى الله عليه وسلم من بين الرسل والأنبياء.

 

والإيمان بالمنزَّل يستلزم الإيمان بالمنزِّل، فآمن صلى الله عليه وسلم بربه - عز وجل - وبما أنزله إليه من القرآن والسنة، وقال صلى الله عليه وسلم- كما في حديث جابر رضي الله عنه: «أشهد أني رسول الله»[13].

 

وانقاد لذلك صلوات الله وسلامه عليه تبليغًا له، ودعوة إليه، وعملًا به، فبلغ البلاغ المبين، وقام حتى تفطرت قدماه[14].

 

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ عطف على الرسول، أي: وآمن المؤمنون الذين حققوا الإيمان بما أُنزل إليه صلى الله عليه وسلم من ربه من الوحي، اتباعًا له صلى الله عليه وسلم فآمنوا بالله - عز وجل - وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه، وانقادوا لذلك ظاهرًا وباطنًا.

 

﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ الآية.

 

هذا توكيد وتفصيل؛ لقوله قبله: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾.

 

﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾؛ أي: كل من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين آمن بالله وصدق بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

 

والإيمان بالله ركن من أركان الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره- كما جاء في حديث عمر بن الخطاب وأبي هريرة رضي الله عنهما[15].

 

﴿ وَمَلَائِكَتِهِ﴾ أي: وآمنوا وصدقوا بملائكة الله- عز وجل- على وجه الإجمال والتفصيل- كما جاء في الكتاب والسنة.

 

والإيمان بهم ركن من أركان الإيمان الستة، وهم عالم غيبي، خلقهم الله من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»[16].

 

أعطاهم الله قوة وقدرة على القيام بما يأمرهم الله - عز وجل - بتدبيره من أمر الكون، كما قال تعالى: ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾ [النازعات: 5]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 27]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].

 

يعبدون الله - عز وجل - ويسبحون على الدوام؛ كما قال تعالى: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20].

 

منهم من وُكِّل بالوحي، وهو جبريل - عليه السلام - ومنهم من وكل بالقطر، وهو ميكائيل، ومنهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومنهم إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكلون بالرحم والنطف، ومنهم الموكلون بحفظ العباد وأعمالهم، ومنهم الموكلون بالسؤال في القبر، ومنهم الموكلون بالشمس والقمر والأفلاك، ومنهم الموكلون بالجنة، ومنهم الموكلون بالنار، ومنهم الصافون المسبحون، ومنهم حملة العرش، إلى غير ذلك.

 

﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ قرأ حمزة والكسائي وخلف: «وكتابه» بالإفراد، وقرأ الباقون: ﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ بالجمع، والقراءتان بمعنى واحد؛ لأن «كتاب» على قراءة الإفراد مفرد مضاف، والمفرد المضاف يعم - أي: وآمنوا وصدقوا بجميع كتب الله - عز وجل - على وجه الإجمال والتفصيل، كما جاء في الكتاب والسنة:

منها: صحف إبراهيم عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19].

 

ومنها: «التوراة والصحف التي أنزلها الله على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾.

 

وأكثر أهل العلم على أن المراد «بصحف موسى» التوراة، وقيل: غيرها.

 

ومنها: «الإنجيل» الذي أنزله الله - عز وجل- على عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام - كما قال تعالى: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46].

 

والمراد بالتوراة والإنجيل الكتابان اللذان أنزلهما الله حقًا، لا ما يوجد اليوم في أيدي اليهود والنصارى مما حرف وبدل.

 

ومنها: «الزبور» الذي آتاه الله- عز وجل- داود- عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].

 

ومنها: «القرآن» الذي أنزله الله - عز وجل - على محمد- عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].

 

كما آمنوا على وجه الإجمال بجميع الكتب التي أنزلها الله على جميع رسله، كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213] وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].

 

آمنوا بأن جميع كتب الله- عز وجل- منزلة من عنده حقًّا وصدقًا، وأنها متفقة في الدعوة إلى عبادة الله - عز وجل - وفي أصول الشرائع من الدعوة إلى الخير وفضائل الأعمال، والنهي عن الشر ومساوئ الأعمال، وأن القرآن الكريم مصدق لجميع الكتب المنزلة قبله، ومهيمن عليها، وناسخ لها، فما وافقه من أحكامها قبلناه وما خالفه منها تركناه، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].

 

وأنه كلام الله - عز وجل - حقًّا المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أخباره صدق، وأحكامه عدل، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115].

 

﴿ وَرُسُلِهِ ﴾؛ أي: وآمنوا وصدقوا برسله- عز وجل- من لدن آدم- عليه السلام- إلى نبينا محمد- عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، من قصهم الله- عز وجل- في كتابه، ومن لم يقصصهم، كما قال تعالى: ﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164].

 

والرسول: هو من أوحى الله إليه بشرع، وأمره بتبليغه، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا، ذكر في القرآن الكريم منهم خمسة وعشرون رسولًا.

 

منهم ثمانية عشر رسولًا ذكروا في قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 83 - 86].

 

ومنهم إدريس، وذو الكفل، وهود، وصالح، وشعيب، ومنهم وأولهم آدم، ومنهم وآخرهم وخاتمهم وأفضلهم محمد- عليه وعليهم الصلاة والسلام.

 

قال البيجوري[17]:

في تلك حجتنا منهم ثمانية
من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو
إدريس هود شعيب صالح وكذا
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

 

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير». قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم»، قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: «نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلًا»، ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيث، ونوح، وخنوخ، وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك»[18].

 

﴿ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ قرأ يعقوب بالياء «لا يُفَرِّق»، وقرأ الباقون بالنون ﴿ لا نُفَرِّقُ ﴾.

 

والجملة في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، أي: يقولون، وجملة الفعل المقدر «يقولون» في محل نصب على الحال.

 

وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم، للتنبيه إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، أي: لا نفرق بين أحد من رسله، بل نؤمن ونصدق بهم جميعًا، وبما جاؤوا به من عند الله، من الكتب والرسالات، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 152].

 

وهذا بخلاف الذين قال الله عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 150].

 

ولم يذكر الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، وهي من أركان الإيمان وأصوله الستة؛ لأن الإيمان بها مما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومما جاء في كتبه وعلى ألسنة رسله.

 

﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾؛ أي: وقال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: ﴿ سَمِعْنَا ﴾ أي: سمعنا ما أمرتنا به، وما نهيتنا عنه، بآذاننا، وفهمناه ووعيناه بقلوبنا.

 

﴿ وَأَطَعْنَا ﴾؛ أي: وانقدنا لذلك بجوارحنا، فعلًا للمأمورات، وتركًا للمحظورات، فجمعوا بين الإيمان والتصديق بالقلب واللسان، والانقياد بالجوارح. كما قال تعالى عنهم: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51]، وقال عنهم: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].

 

بخلاف المكذبين من اليهود وغيرهم الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [البقرة: 93]، وقال تعالى عنهم: ﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ [النساء: 46]، وقال تعالى محذرًا المؤمنين منهم ومن مسلكهم: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 21].

 

قال ابن تيمية في كلامه على قوله تعالى ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾: «فهذا إقرار منهم بركني الإيمان اللذين لا يقوم إلا بهما، وهما: السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك، المشترك بين المؤمنين والكفار، بل سمع الفهم والقبول. و«الثاني» الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر»[19].

 

﴿ غُفْرَانَكَ﴾ مفعول لفعل محذوف، أي: نسألك غفرانك، أو نرجو غفرانك، والغفران والمغفرة: ستر الذنب، والتجاوز عنه.

 

﴿ رَبَّنَا﴾؛ أي: يا ربنا. وحذفت ياء النداء اختصارًا، وتبركًا وتيمنًا بالبداءة باسم الرب عز وجل.

 

﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ قُدِّم الخبر ﴿ وَإِلَيْكَ ﴾ لإفادة الحصر، أي: وإليك وحدك دون غيرك المرجع والمآل يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

 

كما أن إليك وحدك مرجع الأمور والأحكام كلها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210].

 

وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، وقال تعالى: ﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [النساء: 141].

 

فجمعوا بين الإيمان والسمع والطاعة، وبين الخوف من ذنوبهم، والافتقار إلى الله، وسؤاله المغفرة، ولم يدلِّوا على الله بعملهم، إذ لا غنى لأحد عن مغفرته- عز وجل- ورحمته، والاعتراف بأن مصيرهم ومردهم إليه.

 

ولهذا قال الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»[20].

 

قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.

 

قوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ﴿ لَا ﴾ نافية، و﴿ يُكَلِّفُ﴾ بمعنى يُلزم، والتكليف: الإلزام بما فيه كلفة، أي: مشقة.

 

و﴿ نَفْسًا﴾ نكرة في سياق النفي، فتعم، أي: لا يلزم الله أيَّ نفس ﴿ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، ﴿ إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿ وُسْعَهَا﴾ أي: طاقتها وما تستطيعه وما يسعها، بلا حرج ولا ضيق، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، وقال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16].

 

وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»[21].

 

وهذه الآية مزيلة لما فهمه الصحابة- رضوان الله عليهم- من تكليفهم ما لا يطيقون بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284].

 

فبين الله- عز وجل- في هذه الآية أنه لا يؤاخذ الإنسان ولا يكلفه بما لا يستطيع دفعه من وسوسة النفس وحديثها.

 

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله- عز وجل- أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل»[22].

 

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «فَتُجوِّزَ لهم من حديث النفس، وأخذوا بالأعمال»[23].

 

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ ذكر عز وجل أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ بيانًا منه أن ثمرة هذا التكليف ومنفعته عائدة إليهم، وهو غني عنهم وعن أعمالهم؛ أي: لها ما عملت من خيرٍ لا ينقص منه شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].

 

﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾؛ أي: وعليها ما عملت من سوء لا يحمله غيرها، ولا يزاد فيه أو ينقص.

 

كما قال: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

 

وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [فاطر: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164].

 

وقدم الخبر في الجملتين في قوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ لتأكيد الحصر واختصاص كل نفس بجزاء عملها.

 

و«اكتسبت» أبلغ من «كسبت»؛ لأن زيادة المبنى تدل- غالبًا- على زيادة المعنى.

 

﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ هذه الجملة، وما عطف عليها إلى قوله: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، تقديره: «قولوا»، أي: قولوا: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ﴾، فهو تعليم من الله، وإرشاد لهم أن يدعوه بهذا الدعاء.

 

ويحتمل أن التقدير: «وقالوا ربنا» فيكون معطوفًا على الدعاء السابق: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾.

 

وقوله: ﴿ رَبَّنَا ﴾؛ أي: يا ربنا ﴿ لَا تُؤَاخِذْنَا ﴾ المؤاخذة مشتقة من الأخذ، بمعنى العقوبة، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]؛ أي: إذا عاقب القرى وهي ظالمة إن عقابه أليم شديد.

 

﴿ إِنْ نَسِينَا ﴾ النسيان: ذهول القلب عن شيء معلوم.

 

﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ الخطأ: الوقوع في المخالفة من غير قصد، إما لجهل، أو غير ذلك.

 

والمعنى: ربنا لا تعاقبنا، إن تركنا واجبًا، أو ارتكبنا منهيًا نسيانًا وذهولًا منا، أو خطأً وجهلًا منا، بلا قصد.

 

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «قال الله: نعم». وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قال الله: قد فعلت»[24].

 

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»[25].

 

﴿ ربنا ﴾ أي: يا ربنا، وكرر النداء تبركًا بهذا الاسم الكريم.

 

﴿ وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ﴾ الواو: عاطفة، والجملة معطوفة على ما قبلها.

 

﴿ إِصْرًا ﴾ ثقلًا، و«الإصر» و«الإصار» في الأصل: ما تربط وتعقد وتشد به الأشياء.

 

والمراد به الشيء الثقيل الشاق الذي يعجز الإنسان عن تحمله من الأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

 

أي: وأخذتم على ذلكم عهدي بالإيمان بالرسول ونصرته. ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].

 

كما يطلق «الإصر» على ما يعجز الإنسان عن تحمله من العقوبات والمصائب الكونية.

 

والمراد بقول المؤمنين هنا: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾؛ أي: ما نَعجِز عنه من التكاليف الشرعية.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية[26]: «أي: لا تكلفنا من الآصار التي يثقل حملها ما كلفته من قبلنا، فإنا أضعف أجسادًا، وأقل احتمالًا، وهذا في الأمر والنهي والتكليف».

 

ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿ إِصْرًا ﴾ ما يشمل التكاليف الشرعية، والعقوبات والمصائب الكونية.

 

﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ «الكاف»: للتشبيه، بمعنى: «مثل»، و«ما»: موصولة أي: مثل الذي حملته على الذين من قبلنا، من اليهود والنصارى وغيرهم، من الآصار والأغلال.

 

من ذلك أن الله جعل من شروط قبول توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، أي: قتل بعضهم بعضًا، حتى إن الرجل يقتل أخاه وابنه وأباه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54].

 

ومن ذلك التشديد عليهم بصفات البقرة التي أمروا بذبحها؛ وذلك بسبب عنادهم ومخالفتهم أمر الله - عز وجل - وتشديدهم على أنفسهم، فشدد الله عليهم.

 

وقد وضع الله - عز وجل - هذه الآصار والأغلال عن هذه الأمة بما أنزله على نبي الرحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

 

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «بُعثت بالحنيفية السمحة»[27].

 

والحكمة من قوله تعالى: ﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ تذكير الأمة بعظيم فضل الله عليها، وما ميَّزها به من بين الأمم، وبضدها تتميز الأشياء.

 

﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾؛ أي: لا تحملنا ما لا نطيقه، ولا قدرة لنا على تحمله من المصائب والأقدار الكونية ولا تبتلنا بما لا قبل لنا به، وعافنا من بلاء الدنيا والآخرة- كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»[28].

 

قال ابن تيمية[29]: «ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم، كما أنهم غير منفكين عما يأمرهم به وينهاهم عنه سألوه التخفيف في قضائه وقدره، كما سألوه التخفيف في أمره ونهيه، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، فهذا في القدر والقضاء والمصائب، وقولهم: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ في الأمر والنهي والتكاليف. فسألوه التخفيف في النوعين».

 

ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ ما يشمل الأحكام الكونية والأحكام الشرعية.

 

﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾؛ أي: تجاوز عما قصرنا وفرطنا فيه من الواجبات.

 

﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾؛ أي: تجاوز عما ارتكبنا من المنهيات.

 

وقد يكون المعنى ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ أي: تجاوز عن ذنوبنا ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ أي: استرها عن الخلق.

 

﴿ وَارْحَمْنَا﴾؛ أي: وارحمنا برحمتك الواسعة فيما يستقبل، فلا نُفَرِّط في الواجبات، أو نرتكب المحرمات، قال ابن زيد في قوله: ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ قال: «اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك، مما أمرتنا به، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه، ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ قال: «يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا نترك ما نهيتنا عنه، إلا برحمتك. قال: ولم ينج أحد إلا برحمتك»[30].

 

قال ابن كثير[31]: «﴿ وَارْحَمْنَا﴾ أي: فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو ﷲ عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره».

 

﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ كما بدؤوا دعاءهم بالتوسل بربوبية الله- عز وجل- لهم ختموه بالتوسل بولايته عز وجل لهم، فقالوا: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾؛ أي: أنت وحدك ولينا وناصرنا، لا مولى لنا سواك.

 

والمراد بالولاية هنا: الولاية الخاصة، وهي ولاية الله - عز وجل - للمؤمنين؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

 

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم- كما حكى الله عنه: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196].

 

ولما قال أبو سفيان يوم أحد: «لنا العزى، ولا عزى لكم»، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ألا تجيبونه»؟ قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم»[32].

 

وهناك الولاية العامة لجميع الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

 

﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾؛ أي: فأظهرنا على أهل الكفر كلهم من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين وغيرهم، بإظهار ما نحن عليه من حق بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.

 

ونعم المولى - عز وجل - ونعم النصير لمن عبده، وتوكل عليه واعتصم به ولاذ بحماه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40]، وقال تعالى: ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150].

 

وتقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجثوا على الركب، فأنزل الله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، قال: نعم»[33].

 

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما فأنزل الله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: قد فعلت، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: قد فعلت. ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ قال: قد فعلت»[34].

 

وقد روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من هذه السورة ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، قال: «آمين»[35].

 

وقد أعطى الله - عز وجل - هذه الأمة وتفضل عليها بما لم يعطه أحدًا من الأمم قبلها، فلم يؤاخذها بالنسيان والخطأ، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، ولم يحملها ما لا طاقة لها به، وعفا عنها وغفر لها ورحمها ونصرها على الكافرين، وأيَّدها عليهم، ومكن لها دينها، واستخلفها في الأرض يوم أن كانت قائمة بأمر الله عز وجل.

 

وما أصاب الأمة ما أصابها من الضعف وتسلُّط الأعداء إلا بعد أن بعدت عن دينها، ولن يعود لها مجدها وعزها إلا بالعودة الصحيحة إلى دينها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وصدق الله العظيم: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].



[1] أخرجه البخاري في المظالم- إثم من ظلم شيئًا من الأرض (2453)، ومسلم في البيوع- تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] أخرجه البخاري (2454)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[3] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 249).

[4] سيأتي قريبًا تخريجه بتمامه.

[5] أخرجه البخاري في التفسير (4685)، ومسلم في التوبة- قبول توبة القاتل (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183)، وأحمد (2/ 74).

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (125)، وأحمد (2/ 412).

[7] أخرجه مسلم في الإيمان (126)، والترمذي في التفسير (2992)، وأحمد (1/ 233، 332).

[8] أخرجه ابن أبي شيبة في الزهد (14/ 7)، والطبري مطولًا ومختصرًا في «جامع البيان» (5/ 132- 134)، والحاكم في التفسير (2/ 287)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن الجوزي في «نواسخ القرآن» (ص 229).

[9] أخرجه البخاري في «فضائل القرآن» (5010)، ومسلم في صلاة المسافرين (807)، وأبو داود في الصلاة (1397)، والترمذي في فضائل القرآن (2881) وابن ماجه في إقامة الصلاة (1368).

[10] أخرجه أحمد (5/ 151)، والطبراني في «المعجم الكبير» (3/ 169)، حديث (3025)، وأبو داود الطيالسي في «مسنده» ص(56) وإسناده صحيح.

[11] أخرجه أحمد (4/ 147)- وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 506): «هذا إسناد حسن، ولم يخرجوه في كتبهم».

[12] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين- فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (806)، والنسائي في الافتتاح- فضل فاتحة الكتاب (912).

[13] أخرجه البخاري في الأطعمة - الرطب والتمر، وقول الله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].

[14] كما في حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري في التفسير- قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، (4837)، ومسلم في صفات المنافقين- الإكثار من الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820).

[15] أخرج حديث عمر رضي الله عنه مسلم في الإيمان (8)، وأخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 10)، والنسائي في الإيمان (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64).

[16] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[17] انظر: «جوهرة التوحيد» (ص185).

[18] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 422-426) من رواية ابن مردويه، ومن رواية الآجرُّي. وأخرجه أحمد (5/ 265-266) بنحوه من حديث طويل عن أبي أمامة رضي الله عنه. وفيه عدد الرسل ثلاث مئة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا.

[19] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 251).

[20] أخرجه البخاري في المرضى (5673)، ومسلم في صفة القيامة (2816)، وابن ماجه في الزهد (4201)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[21] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337)، والنسائي في مناسك الحج (2619)، والترمذي في العلم (2679)، وابن ماجه في المقدمة- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[22] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 132).

[23] أخرجها أحمد (1/ 332)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 133).

[24] سبق تخريجهما.

[25] سيأتي تخريجه.

[26] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[27] أخرجه أحمد (5/ 266)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضًا (6/ 116)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[28] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2966)، ومسلم في الجهاد والسير (1742)، وأبو داود في الجهاد (2631)، من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه.

[29] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[30] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 164- 165).

[31] في «تفسيره» (1/ 506).

[32] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3039)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

[33] سبق تخريجه.

[34] سبق تخريجه.

[35] أخرجه أبوعبيد في «فضائل القرآن» (ص 125)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 426)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 169).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير: (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)
  • فصلٌ: في بيان قوله الله تعالى: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله }
  • السماوات بين المنظور العلمي والقرآن (1)
  • الدرس الثاني: قوله تعالى: { لله ما في السماوات وما في الأرض }
  • { ولله جنود السماوات والأرض } (خطبة)
  • تفسير قوله الله تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ...}

مختارات من الشبكة

  • تفسير قوله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم...}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • تفسير قوله تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ...}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله..)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • البيان في تفسير القرآن - تفسير قوله تعالى (وإياك نستعين)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب